الرئيسة/ثقافة

ذمّ الفيسبوك

بقلم: مخلص برزق

قالوا إنه مصيدة فلا تسلم عنقك طوعاً للجلادين، إياك أن تسلم زمامك لأعداء متربصين، إنه فخ فلا تنثر أوراقك مجاناً أمام العالمين..
احذر فإنه منتج مشبوه وصاحبه مارك زوكربيرغ ليس سوى صهيوني يخفي وراءه مؤسسة استخبارية ضخمة لكل أعداء أمتنا فيها حصة ونصيب..
في المقابل تعالت أصوات تستخف بالمسكونين بنظرية المؤامرة، هازئة بالمتلفتين دوماً يمنة ويسرة، والمتخلفين عن ركب التطور في كل حين..
ما بين التهويل والتهوين كانت ردة الفعل إحجام وإقدام، رهبة ورغبة، تهيّب وتسيّب، وكل فريق يرمي الآخر من خندق أفكاره المتشرنق فيه..
كان الاختراق الكبير لحصون المستنكفين وسقوط قلاعهم يوم سقط الرئيس المصري حسني مبارك وذاعت وقتها مقولة مبالغ فيها إلى حد الارتياب في مطلِقها وناشرِها، مفادها بأن أولئك الذين واكبوا التطور التقني وتسلحوا بالفيسبوك والتويتر فاقوا غيرهم وفعلوا ما عجز عنه السابقون الأولون، وأن شباب الفيسبوك الأغرار صنعوا المعجزات وأخرجوا الأمة من النفق المظلم الذي حواها دهراً من الزمان.
بادر الكثيرون إلى التسجيل طواعية في تلك المواقع الاجتماعية التي صنعت ربيعنا العربي "الزاهر" استدراكاً لما فاتهم من قصب السبق وليكون لهم سهم أو سهام في ذلك المجد الذي يبنيه "الفيسبوكيون" لأمتهم.
كنت أحد أولئك الذين ولجوا في ذلك العالم الافتراضي وعايشت -وما أزال- تعقيداته وتشابكاته وإشكالياته ووقفت على الكثير من محاسنه وإيجابياته وكذلك مساوئه وسلبياته، وما أزال أرقب عن كثب قوارب تبحر وسط بحره اللجي الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، يوشك بعضها أن يغرق أو يتحطم بفعل ما تلقاه من ضربات متتابعة لا قبل للقوي أن يحتملها.
كانت لحظة فارقة كبرى عندما حصلت على موطئ قدم لي في العالم الأزرق، وهو حقيقة عالم آخر مختلف تماماً عن عالمنا الذي نعيش ونحيا فيه.. فبمجرد أن سجلت للدخول فيه إذ بأعداد هائلة من الخلق يطرقون بابي وبإلحاح شديد!! وكأني بهم يدهمون بيتي المتواضع على غير استعداد مني كالذي يغشاه الضيفان وليس في ثلاجته كأس ماء يقدمه لهم!!
بدأ القوم يتوافدون زرافات ووحدانا.. ويا لفرحتي وسروري بالكثير منهم فهذا أخي وشقيقي وتلك خالتي وقريبتي وهذا صديق عمري وهذا رفيق دربي وذاك زميلي في العمل ومعهم تلاميذ أعزاء وطلبة نجباء..
تتابع القوم ولم يتوقف طرق الباب لحظة وأنا أفتحه لهم بابتسامة عريضة فهذا داعية مرموق وآخر إعلامي ذائع الصيت وتلك ناشطة للقدس والأقصى وأولئك يقطنون في حيِّنا ومنطقتنا والبعض معجب بما خطه قلمي وغيرهم يطلب التعارف وقائمة تطول ولا تقصر..
بدا الأمر لوهلة أنه لقاء جامع لطالما اشتاقت النفس وتاقت الأرواح لمثله، فكأنه حلم جميل بدا واقعاً بديعاً زاهياً نعيشه بأجمل التفاصيل وأعجبها.
الحقيقة كانت مغايرة للأماني الوردية التي ساقت أرجلنا إلى ذلك المحفل العجيب..
ببساطة متناهية أنت الآن تستضيف ما يقارب الخمسة آلاف إنسان في بيتك وعليك أن توفيهم جميعاً حقوقهم دون تمييز أو تقصير وعلى مدار اليوم والأسبوع والشهر والسنة!!
يأتيك أحدهم حزيناً باكياً لفقد عزيز وما عليك إلا أن تبادر للأخذ بالواجب وألا تقصر في تقديم العزاء بعبارات التعزية والأيقونات الحزينة له ولكل أقاربه الذين تستضيفهم في صفحتك، وتحرِّي عدم إيذاء مشاعره طوال فترة حزنه بوضع "بوستات" مرحة أو صور تبدو فيها مبتسماً منتعشاً أو أنك تعيش حياتك بشكل طبيعي.. وفي ذات اللحظة فعليك أن تهنئ صاحب المناسبة السعيدة وإياك أن تبخل بعلامات الإعجاب "اللايك" وعبارات الإطراء وحبذا لو توجتها بالمشاركة "الشير" كي تبدو أكثر صدقاً وتفاعلاً، ما بين هذا وذاك فعليك ألا تهمل نكتة أخ ظريف ولا صورة أخ متأنق أو موعظة أخ محب وأنت مطالب أن تجامل هذا وتنصح هذا وتردّ على سؤال هنا واستفسار هناك وتدحض شبهة أو تحذف أمراً مسيئاً..
عليك ألا تهمل أحداً حطَّت رحاله على صفحتك فإن هللت ووجَّبْت أحداً ردّ على منشور لك، فالويل لك إن لم تعامل كل من تفضلوا عليك بتعليق أو مشاركة وهو ما قد يقتضي أن تفرغ نفسك تماماً للرد على مئات المتفاعلين مع منشورك، وهو ما يسوقك سوقاً إلى الاقتصاد في طرح فعاليات لك، ويجعلك تنتبه لعواقب الإكثار من المنشورات التي تلفت الانتباه وتجلب لك "اللايكات" والتعليقات..
ثم إن البعض يفترض أنك لا ترى عند فتحك لصفحتك سوى منشوراته، ولا يفترض رغم أنه في عالم افتراضي أنك لم تلحظ صورته أو تقرأ تعليقه أو الخبر المتعلق به، إنه لا يقبل إلا تفاعلاً كاملاً ومتابعة دقيقة منك لكل ما يصدر عنه!! وليت الأمر يقف عند ذلك فما أكثر من يضمك إلى مجموعات على "الفيسبوك" و"الواتس أب" ويريدك أن تكون عضواً نشطاً متفاعلاً بحجم "قامتك العلمية" ووزنك الاجتماعي والويل لك إن أبديت تذمراً أو خرجت منها وعلم أنك بقيت في مجموعة أخرى!!
في العالم الافتراضي لا يكتفي البعض بإعجابك بمنشوره على الفيسبوك فعليك أن تضع علامة الإعجاب والتعليق المصاحب لها على ذات المنشور إن أعاد نشره على التويتر أو الواتس أب أو الأنستجرام أو غيرها من المواقع التي تتكاثر كالفطر دون رابط أو ضابط.
عليك وأنت تقلِّب صفحة الفيسبوك أن تتنقل وخلال ثوانٍ معدودات بين أخبار مفرحة سارة وأخرى مؤلمة حزينة وبين مواعظ رصينة جليلة ونكات خفيفة لطيفة، تتحسس قلبك ومشاعرك فتنكر ذلك الانفصام النفسي (الشيزوفرانيا) المصاحب لك فرحاً وسروراً وغبطة وحزناً وألماً وغضباً.. كل ذلك خلال لحظات معدودات تعبر فيها بتعبيرات متناقضة تجعلك تتهم نفسك بالوقوع فيما يشبه تبلد الإحساس أو المشاعر المصطنعة الزائفة.
ولعل من أخطر مزالق الفيسبوك أنه يتملقك بعبارات فارغة جوفاء عندما تحل بعض المناسبات الخاصة بك كذكرى ميلادك أو زواجك، وقد يحث الآخرين على الاحتفاء بك، ثم هو يطعنك بخنجر مسموم لأنك ساهمت في إحياء ذكرى عياش أو وضعت صورة له!! تظهر لا مبالاته وازدراؤه لك حال قيامه بإلغاء صفحتك دون سابق إنذار وتلك صفعة لا تحتملها النفوس الأبية وغدرٌ تأباه الفطرة السوية..
إنه إذن يريدك أن تغرد باللحن الذي يختاره لك، إنه ببساطة يريدك مكبلاً بأصفاده الافتراضية، يريدك مكبلاً بقيود يضعها على عينيك وفمك وأذنيك!! يريدك مدجناً لشروطه، مستسلماً لإملاءاته، كائناً لطيفاً ظريفاً وديعاً بلا أسنان ولا مخالب أو أنياب.
ورغم فورات الغضب التي نبديها بمقاطعته يوماً أو يومين إلا أننا ما نلبث أن نعود إليه -رغماً عنّا- لمتابعة شؤون الأصدقاء وتفقد أحوال الأقرباء، وتوزيع الأوجه الباسمة واللايكات، وتغيير "البروفايل" والأيقونات، ونكتفي بكيل الشتائم اللاذعات لإدارة الفيسبوك التي تكيل بمكيالين ولا تلقي بالاً بما نبدية من اعتراضات واحتجاجات، فمن خفّ وزنه وانحطّ قدره في العالم الواقعي وارتضى الدونية واختار غير ذات الشوكة حتى تداعت عليه الأمم من كل حدب وصوب لاعليه أن يطمع في مكان مقدر مرموق في عالم الفيسبوك.

متعلقات


آخر الأخبار

جميع الحقوق محفوظة ©2017 فلسطين.نت