الرئيسة/تقارير إخبارية

نكبةُ القرن الـ (21)..أطفال فلسطين يتركون الدراسة للعمل في المستوطنات

سجود عليوي - فلسطين نت
طرق الفقر بابه، ثم على عتبته تربع.. يعمل ليلاً نهارًا ليعيل أبناءه الأربع، مد للعمل كفيه الاثنتين، فلم يكفِ عائلته في الشهر سوى أسبوعين، أنهكه الدهر وأكلت منه السُنون، فهب لنجدته الأبناء والبنون، إن فداه البعض بالقول فبالروح فداه الآخرون، خلعوا عن أكتافهم طفولة الزغب، ودخلوا في خيفةٍ وجار الذئب، قالوا: يا أبانا دع عنك جولةً من التعب واترك لنا نصيبًا من الشقاء والنصَب، أنتَ قد ودعتنا.. ونحن قد ودعنا حكاية الحرف والكُتب.

في الوقت الذي يحارب فيه الفلسطينيون بسلاحهم الأخير "التعليم"، يبدو أن هذا السلاح في طريقه نحو التآكل، فعامًا تلو الآخر تتزايد معدلات تسرب الطلبة من المدارس، كما تتزايد معدلات الفقر والبطالة في المجتمع الفلسطيني ككل، وتغدو محاولات سد هذا التسرب غير ذات جدوى حتى الآن، والأنكى من هذا أن تسرب الطلبة الأطفال ارتبط بعملهم المتزايد في المستوطنات "الإسرائيلية"، مما يهدد بظهور جيل فتيّ تابع للمحتل فكريًا واقتصاديًا منذ النشأة، ويضعف الجذوة الوحيدة المتبقية في نضال الفلسطينيين.

الدخول إلى وجار الذئب
أبو شادي والدٌ لأربع أبناء، خامسهم يأتي قبل الصيف، ينطلق للعمل على جولتين؛ فجرًا في المحجر القريب، وعصراً في المستوطنة القريبة، أنهتكه أعباء الحياة وتكاليفها، فهب لنجدته أكبر أبنائه، وبعد عام واحد أصبح اثنان من أبنائه يشاركونه العمل، ويتقاسمون معه مشاق الحياة وهمومها.

في البداية عمل شادي في المحجر المجاور واستمر في دراسته، ومع منتصف العام الماضي انتقل للعمل في المستوطنة التي يعمل بها والده وترك المدرسة، تحسُن وضع الأسرة المعيشي أغرى ابنه الأصغر بالعمل معهم، فترك الدراسة والتعليم واتجه للعمل.

لا يشعر أبو شادي بالألم لحرمان أبنائه من إكمال تعليمهم، فهو أيضًا لم يكمل تعليمه الابتدائي، ولا يشكل له عملهم في المستوطنة بأسًا أو أرقًا؛ فهم يعملون "تحت عينيه"_ ناظريه_ كما يعتقد، ولا يبدو أن أيًّا من أبنائه يرى غضاضةً في ترك المدرسة، خاصةً أن معدلاتهم الدراسية لم تكن تؤهلهم للوصول إلى مراحل متقدمة من التعليم، كما يقول والدهم.

ومع ذلك يقدم أبو شادي الوعد تلو الآخر لمدير المدرسة بإعادة أبنائه إلى صفوفها مطلع العام الدراسي المقبل أو الذي يليه.. أو يليه، إن لم يكن الابن الأكبر.. فالذي يليه.

مما قاله أبو شادي لنا رداً على أسئلة مراسلة "فلسطين نت": "على الأبناء مساعدة آبائهم في مصروف البيت.. أنا متأكد أني سأزوج أبنائي وأفرح بهم قبل بقية الأولاد الذين أكملوا تعليمهم.. العلم لا يطعم الخبز ولا يفتح بيوتاً في كثيرٍ من الأحيان".

كما يضيف لمراسلتنا: "لا أترك لهم حرية التعامل مع اليهود (المستوطنين) وإنما عملهم بأكمله تحت عيني ومراقبتي.. ومع ذلك أبنائي لديهم وعي بالمحتل وأساليبه"، ويرد أبو شادي على من يقول إن العمل في المستوطنات يوصل للعمالة، متحديًا: "فليأتيني بعمل فلسطيني بنفس الدخل أو حتى أقل وأنا موافق".

وفي رده على دعوات مدرسة أبنائه لإعادتهم لصفوفها، يقول: "تواصل معي مدير المدرسة مرارًا لإعادتهم للدراسة، ولا مانع لدي لكن أبنائي لا يرغبون بذلك، ومع ذلك وعدته خيرًا، دعتني المدرسة لتجمع للأهالي للحديث عن ترك المدرسة وجاءت لجنة من الوزارة، لم أقتنع بأسبابهم ولم يقتنعوا بأسبابي"، مؤكدًا: "في أي وقت يرغب أبنائي بالعودة للمدرسة لن أقف في طريقهم".

الأرقام تتحدث
في دراسة للباحث رامز السائح، أشار فيها إلى إحصائيات تتحدث عن أن 5.5% من الفلسطينيين العاملين في مستوطنات منطقة الأغوار هم من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و16 عامًا، هذه النسبة الكبيرة من أصل عشرين ألف فلسطيني يعملون لما يزيد عن السبع ساعات يوميًا، وبمقابل مجحف لا يتجاوز الـ 100 شيكل في اليوم الواحد.

ويدرج الباحث في دراسته تحت عنوان "قراءة في واقع عمالة الأطفال الفلسطينيين" إحصاءات لجهاز الإحصاء المركزي في يوم الطفل العالمي الخامس من إبريل 2016، تؤكد ارتفاع نسبة الأطفال العاملين من الفئة العمرية 15-17 عامًا إلى 9.0% مقابل 7.7% عام 2012م، في حين وصلت نسبة الأطفال العاملين والمتسربين من المدرسة عام 2015م من الفئة العمرية نفسها إلى 33.7% مقابل 3.6% من الفئة نفسها يعملون ويواصلون تعليمهم في الوقت ذاته.

ورغم هذه الارقام المرتفعة يشير الباحث رامز السائح لـ "فلسطين نت"، إلى أن هذه الارقام هي انعكاس لحالات اجتماعية محدودة حتى اللحظة ولم تتحول لظاهرة، وإنما مرتبطة بشكل كبير بالقرب الجغرافي لبعض القرى من المستوطنات "الإسرائيلية"، وخاصة تلك التي يعمل بها السكان الفلسطينيون بشكل كبير وواضح بل وأحيانًا بشكل عائلي، "مما يتيح المجال أمام الطفل إلى ترك المدرسة والعمل مع والده وإخوته وأعمامه وأخواله في المستوطنة"، على حد قوله.

يؤيد جمال سليم مدير مدرسة ذكور سلفيت هذا القول، انطلاقًا من تجاربه التربوية، فيؤكد: "الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بعض التجمعات السكانية تلعب دورًا مهمًا في تشجيع التسرب، مثلا الزواج المبكر للشباب في بعض المناطق، الذي يفرض على الشاب ترك المدرسة لتكوين نفسه".

ويضيف سليم: "كما يحدث في قراوة بني حسان_محافظة سلفيت، _والتي كان مديراً لمدرستها الثانوية_ وكانت  بها أعلى نسب تسرب في المحافظة بأكملها، إضافةً إلى  قرب القرية من إحدى المستوطنات الصناعية مثل منطقة ارئيل الصناعية (بركان) التي تجتذب إليها عددًا من طلبة المدارس من مختلف القرى في منطقة سلفيت، وبالأخص قريتا حارس وقراوة بني حسان".

التسرب.. قطرة ففيضان
يشير معاوية عواد، رئيس قسم الإرشاد في مديرية بيت لحم، إلى أن قضية تسرب الطلبة من المدارس لا تمر بشكل عابر وإنما يتم متابعتها بشكل لحوح وحثيث، بدءًا من التقارير الدورية التي تُرفع، مرورًا بمتابعة الطلبة ومحاولة إعادة دمجهم بالفصل الدراسي أو ضمهم لمعاهد مهنية "بعد الصف العاشر"، وانتهاءً بالتواصل مع أولياء الأمور ودفعهم لحث أبنائهم على الاستمرار بالتعليم، "هذه الإجراءات لا تضمن دائماً عودة الطالب إلى التعليم لكنها تنجح في بعض الأحيان"، وفقًا لعواد.

كما يرى أن التسرب لا يحدث فجأة وإنما يرتبط بتراجع في الأداء الأكاديمي للطالب، وغياب متكرر ومحاولات للهروب من المدرسة، مؤكدًا في الوقت ذاته أن المدرسة المعنية تعقد لقاءات مع الطالب وأهله لتوجيههم إلى أنَّ هذا الأمر هو هدر بشري وتربوي، "وفي الحالات التي لا يبدي فيها الأهالي تجاوبًا مع المدرسة يتم تحويل الطلبة إلى مؤسسات حماية الطفولة التابعة للشؤون الاجتماعية، لمحاولة توضيح مخاطر التسرب للطالب وأهله" وفقًا لقوله.

ويلفت المرشد إلى أن التسرب من المدرسة مرتبط بالذكور والإناث مع اختلاف التوقيت والمسببات، فعند الطلبة يتركز التسرب من المدرسة في الصف الثامن، والسبب غالبًا ما يكون اقتصاديًا، في حين تتسرب الطالبات ما بين الصف العاشر وحتى التوجيهي، والسبب غالبًا ما يكون الزواج المبكر.

الهيئة التعليمية.. الجدار الاستنادي في وجه التسرب
بعد تراجع المستوى التعليمي للطالب أحمد في صفه التاسع ترك المدرسة، كان واحدًا من بين حالات عديدة تركت مقاعد الدراسة وذهبت للعمل في المستوطنة القريبة، بدأ عمله بالتعاون مع مقاول من بلدته، ولأن سنه صغيرة ومن غير القانوني منحه تصريح للعمل داخل المستوطنة كان يقوم المقاول بتهريبه في صندوق سيارته "الطبون" بشكل يومي للدخول والعمل.

مدير المدرسة جمال سليم رأى فيما يقوم به أحمد معاناة وضياعًا، ولذا تواصل مع الطالب وولي أمره بشكل حثيث حتى تم إعادته إلى صفه الدراسي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل استضافت مدرسته شخصيات اجتماعية وتربوية وسياسية تحدثت عن تجربتها الشخصية ودور التعليم في وصولهم إلى مستويات اجتماعية واقتصادية عُليا.

المرشد معاوية عواد يلفت النظر إلى أن التوعية لا ترتبط بنواحٍ تربوية فقط، ولا ينحصر إطارها في الطالب والأهل، وإنما تمتد إلى نواحٍ قانونية تمس أرباب العمل، حيث يتم تنبيههم إلى العقوبات والغرامات التي يوقعها القانون الفلسطيني في كل من يشغل قاصرًا لم يتجاوز الـ 18 عامًا.

أما الباحث رامز السائح، فيشير إلى أن القوانين والتوعية ليست ذات طائل إن لم يتم معالجة المسبب الأساسي للتسرب وهو العامل الاقتصادي، ويرى أن في تطوير المهن وتدريب الطلاب مع دفع مقابل لهم يخفف بشكل كبير من حدة التسرب، إضافةً إلى توفير فرص عمل في العطلة الصيفية لهم داخل المناطق الفلسطينية، لردعهم عن العمل لدى المستوطن المحتل.

ختامًا، قيل فيما مضى: "أولادنا أكبادنا.. ثمار قلوبنا.. وعماد ظهورنا.."، فهل حين يضيع أبناؤنا بين مجاهل المستوطنات يبقى في الجسد كبد، وفي الشجر ثمر؟ وهل لنا من عمادٍ إن أسلمنا عمادنا لعدونا أو أسندنا سلاحنا إلى غيرنا؟

متعلقات


آخر الأخبار

جميع الحقوق محفوظة ©2017 فلسطين.نت